–
–
هل الماء المهين هو ماء حقير وضعيف كما يصفه العلماء أم هم مُخطئون
قال تعالى “أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ” المرسلات 20
وقال تعالى “ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِين” السجدة 8
لقد وقع الكثير من علمائنا من السلف والذين تبعوهم، وغيرهم من علمائنا المعاصرين في الخطأ حين لجأوا للتعريف بالماء المَهين “بفتح الميم” على أنه ماء حقير وضعيف، فقال ابن كثير: أي ماء ضعيف، وقال البغوي: أي ماء ضعيف وهو نطفة الرجل، وقال السعدي: وهو النطفة المستقذرة الضعيف، وقال الشنقيطي صاحب أضواء البيان: ومعنى { مّن مَّاء مَّهِينٍ } : من ماء ممتهن لا خطر له عند الناس وهو المنيّ، وقال الزجاج: من ماء ضعيف حقير، وهو النطفة، وقال القرطبي: أي ضعيف حقير وهو النطفة وقال ابن عاشور: والمهين: الشيء الممتهن الذي لا يعبأ به، وقال الطبري: أي هو من نطفة ضعيفة ورقيقة
وأخيراً تردد على مسامعنا قول للدكتور عدنان إبراهيم يُشير عليه بالماء المَهين ومع ذلك يصفه على أنه الماء المحتقر والضعيف والقليل
–
فكما نُلاحظ من قوله تعالى في الآيتين الكريمتين وهو بأن الله يصفه بالماء المَهين “بفتح الميم” ولم يأتي على وصفه بالماء المُهين “بضم الميم”، وللعلم فهنالك فرق شاسع بين الفتح والضم في المعنى للكلمة بحيث لاتوجد أي علاقة بين ماهو مَهين بما هو مُهين، فالمَهين شيء والمُهين هو شيء آخر مختلف تماماً عنه، بالإضافة على وصف الماء المهين بالسلالة أيضاً فهو خطأ لأن السلالة لا تعني النطفة ولأن النطفة تُشير على الخلية بجوهرها العام، أما السلالة فهي خيط الدنا والذي تحتوي عليه الخلية في نواتها … والسلالة حسب اللغة هي ما يُسل من الشيء لغرض الغزل “النسيج” أي النسل فيُنسل الإنسان به، كما لو تمعنا في قول الله تعالى “ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ” وأعتمدنا بلا شك بأن الحديث هنا يخص الجنس الإنساني بأكمله، البدائي منه والآدمي وتَذَكرنا بأن الله أخبرنا بأن “أحسن كُل شيء خلقه” أخضع كل شيء خلقه للتحسين وكذلك أوقع ذلك على الإنسان والذي رقّاه الله ليكون في أعلى درجات التقويم وأحسنها، فركبه بأحسن صورة، وعلمّه البيان وعلمّه ما لم يعلم، وخلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وكرمه، وفضله على الكثير من خلقه لاستنتجنا بأن الله لم يخلق البشر الآدميين من ماء حقير وضعيف، وبالتالي فإن علينا التحقق من معنى كل من مَهين ومُهين وإعتماد الأصح من القول، فحسب لسان العرب فإن كُل من المَهْنَة والمِهْنَة والمَهَنَة والمَهِنَةُ: هو الحِذْق بالخدمة والعمل ونحوه، وحين نقول قامت المرأَة بِمَهْنةِ بيتها أَي بإِصلاحه، وكذلك الرجل، وحين القول ما مَهْنَتُك ههنا ومِهْنَتُكَ ومَهَنَتُكَ ومَهِنَتُكَ أَي عَمَلُكَ ووظيفتك، وقد مَهَنَ يَمْهُنُ مَهْناً إِذا عمل في صنعته وحرفته أو وظيفته والفروقات واضحة وجليّة فيما بين ماهو مُهين وماهو مَهين، ويمكننا الإستدلال
بقوله تعالى “وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ” سورة الدخان 30
وقوله تعالى “وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ” سورة النساء 14
ومعنى العذاب المُهين وعذاب مُهين “مُهين بالضمة” هو العذاب الذليل والمخزي والحقير والشديد وهذا يختلف عن كلمة أو وصف الماء بالمَهين أي “مَهين بالفتحة” والذي في بيانه والكشف عن معناه سنستعين
بقول الله تعالى “وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ” سورة القلم 10
حيث كانت كلمة مَهين هنا لتصف الكاذب وكأن الكذب هو مهنته وإختصاصه ووظيفته، وهنا لا نستشهد بالحادثة والتي تحدثت عنها الآية الكريمة ولكن نستشهد بالقيمة اللغوية لكلمة مَهين وللإستفادة من معناها اللغوي فقط والتي أتت لوصف للمهنة أو الدور الوظيفي على وجه الخصوص وبالتحديد ومن هنا نتعرف على معناها والغير محدود أو مربوط بظرف أو حالة معينة
ولنا مثال آخر في الإشارة على خطاب فرعون وملأه لموسى عليه السلام ووصفه بالساحر أي إمتهانه لمهنة السحر والتي لا تُقارن بمُلك فرعون ومنزلته حسب ما نسب لنفسه وفي ذلك كان
قوله تعالى “وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)” سورة الزخرف
إذن فإن قول “وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ” في خطابهم لموسى ومن ثم الإشارة عليه بالمَهين “مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ” لأكبر دليل على الوظيفة فتمت الإشارة على موسى على أنه يمتهن السحر ليكسب رزقه وهي مهنة فقيرة لا ثمرة فيها أما فرعون فاشار على نفسه على أنه هو صاحب المكانة ومن بيده رزق مصر، وأتى التأكيد على أن مهنة وعمل موسى وهارون عليهما السلام على أنه السحر في
قوله تعالى “قَالُوا إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ ” طه 63
والدليل على ذلك قوله تعالى “يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا” فكانت الإشارة فيها على ان موسى يمتهن السحر مرة أُخرى وبينت على أنه يستعمل سحره كمهنة وعمل يُضل به الناس … ونريد لأن نستشهد بالدكتور فاضل صالح السامرائي ليبين لنا معنى قوله تعالى “إن هذان لساحران” فهو يقول بأن استعمال إنْ المخففة لتؤكد على أنهما ساحران ولو تم استبدالها بـ إنّ المؤكدة لنفت عنهما مهنة السحر أي فلو كان قولهم المنقول لنا بالقرآن هكذا “إنْ هذان ساحران” لكانت نافية ويكون معناها بأنهم لا يمتهنون السحر ولكن نتيجة استعمال الـ إنْ المخففة أتت معها اللام الفارقة “لتكون خبرها”وبالتالي أوضحت حقيقة امتهنانهم للسحر من خلال قول”لساحران” حيث كانت تؤكد فيها على عملهم بالسحر والتأكيد على الوظيفة التي امتهنوها، ولذلك نقول بأن الماء المَهين “بفتح الميم” هو ماء ذو مهنة ووظيفة وتخصص وأتى العلم الحديث ليؤكد على أنه يحتوي من خلاله السلالة والتي هي ذات وظيفة محددة ومسؤولة عن خلق الإنسان وتكاثره، فكيف لأن تكون وصف لماء حقير وهذا الماء يحضر للوجود من كرمه الله وفضله، ومهنته حمل سلالة الدي إن إيه والتي تحمل الخارطة الوراثية المجهرية للإنسان كُلها وبذلك يكون هذا الماء هو المسؤول عن توالد وتكاثر الإنسان، إن كل من سلالتي الطين والماء المهين لهن وظائف ومهن إمتهونا في عملية نسل الإنسان وتكاثر
وفي إشارة أُخرى على وظيفة هذا الماء المهين والذي امتهنه الله لخلق الإنسان كان في
قوله تعالى “فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ” الطارق 5 – 7
فلقد قال الله تعالى “خُلِق من ماءٍ دافِق” وفي ذلك قال الأزهري “الدَّفْق في كلام العرب صَبُّ الماء وهو متعد يقال دَفَقْتُ الكوز فاندفق وهو مَدفُوق قال ولم أَسمع دفَقْت الماءَ فدَفَق لغير الليث قال وهذا جائز في النعوت”. ولكن الله أتى على “الدافق” في منزلة الفاعل لا المفعول إشارة على دوره الوظيفي أي “الماء المَهين” حيث كان معنى دافق أي ذي دَفْق أو ذو ذفقان، وبالتالي هو صفة للماء، وقال الزجاج من ماءٍ دافق معناه من ماءٍ ذي دَفْق، قال وهو مذهب سيبويه وكذلك مثله سرٌّ كاتم أي ذو كِتْمان
لم يقل الله “خُلق من ماء متدفق” ولو كان قد قال ذلك لكان قوله قد حمل الإشارة على حال الماء ولكن الله قال “خُلق من ماء دافق” فأتت دافق لتُشير على صفة لفعل هذا الماء فهو الفاعل ذو خاصية الدفق وهو الماء الصاب وتقول العرب: بعير أَدفَق أي بيِّن الدفَقِ إذا كانت أَسنانه مُنتصِبةً إلى خارج، وتقول: رجل أَدْفقُ في نِبْتة أَسنانِه .. إذن فالقول في الماء إذا كانت صفته الدفق والذي أشار الله على أنه المسؤول عن خلق الإنسان فهو إذن ماء ذو خصوصية وعمل ووظيفة وليس ماء حقير كما أشاروا عليه